سوالف

الخوف من القرب": عندما تصبح المسافة العاطفية درعًا… فهم اضطراب الشخصية التجنبية

الخوف من القرب": عندما تصبح المسافة العاطفية درعًا… فهم اضطراب الشخصية التجنبية

للعلّم - في كل مجموعة، هناك ذلك الشخص الهادئ الذي يبدو لطيفًا لكنه يبقي نفسه على الهامش. لا يشارك كثيرًا، يتجنب المحادثات العميقة، ويشعر بالقلق من أي نقد. ربما تظنه خجولًا أو انطوائيًا، لكن ما لا تراه هو أن وراء هذا الهدوء قلقًا داخليًا مريرًا، وشعورًا متضخمًا بعدم الكفاية.
هذا ما يعيشه من يعاني من اضطراب الشخصية التجنبية (Avoidant Personality Disorder)، أحد اضطرابات الشخصية التي قد تُخفي ألمًا كبيرًا خلف جدار من الصمت.

ما هو اضطراب الشخصية التجنبية؟
هو اضطراب نفسي مزمن يُصنّف ضمن اضطرابات الشخصية من المجموعة (ج)، والتي تعرف بـ"المجموعة القلقة أو المتجنبة".
يتّسم الشخص التجنبي بحساسية شديدة تجاه النقد، وخوف مفرط من الرفض، مما يدفعه لتجنّب العلاقات الاجتماعية والمهنية التي قد تجلب له هذا الشعور.

أبرز الأعراض والسلوكيات المميزة:
الخوف من النقد أو الرفض:
أي تفاعل قد يؤدي إلى تقييم سلبي يُعد تهديدًا حقيقيًا، لذا يفضل الشخص التجنبي تجنبه بالكامل.

تجنب الأنشطة الاجتماعية أو المهنية:
خاصة التي تتطلب تواصلًا وثيقًا أو مشاركة مشاعر.
حتى فرص الترقية في العمل قد تُرفض خوفًا من الفشل أو الحرج.

صورة ذاتية سلبية للغاية:
يشعر الشخص بأنه أقل شأنًا من الآخرين، غير محبوب، وغير جدير بالتقدير.

التردد في تكوين علاقات جديدة:
إلا إذا تأكّد تمامًا من أنه سيُقبَل دون نقد.
في العلاقات العاطفية، قد يبدو مترددًا أو باردًا، رغم حاجته الشديدة للتواصل.

الانغلاق العاطفي والخجل الشديد:
ليس انطواءً طبيعيًا، بل انعزال ناجم عن خوف عميق.

التضحية بالفرص لتجنب الإحراج:
قد يرفض عروض العمل، السفر، أو حتى المناسبات الاجتماعية بسبب توقعه الرفض أو الإحراج.

ما هي الأسباب المحتملة؟
رغم أن السبب الدقيق غير معروف، فإن عوامل عدة قد تتداخل لتُنتج هذا النمط من الشخصية:

1. الطفولة القاسية أو المحرجة:
تعرض الشخص في صغره للنقد الدائم، السخرية، أو الإهانة قد يزرع الخوف من التفاعل الاجتماعي.

التجارب الاجتماعية المؤلمة، خاصة في المدرسة أو العائلة، تترك آثارًا عميقة.

2. الاستعداد الوراثي والعصبي:
تشير بعض الدراسات إلى وجود عوامل جينية مشتركة بين اضطراب الشخصية التجنبية واضطرابات القلق، مثل الرهاب الاجتماعي.

3. البيئة الأسرية المتسلطة أو الباردة:
قد تنشأ سمات تجنبية لدى الأطفال الذين لم يشعروا بالقبول غير المشروط من والديهم.

4. المزاج الفطري:
بعض الأشخاص يُولدون بمزاج أكثر حساسية للرفض أو النقد، ومع الخبرات السلبية تتبلور سمات التجنب.

الفرق بين اضطراب الشخصية التجنبية والرهاب الاجتماعي:
رغم التشابه الكبير، هناك اختلافات دقيقة:


العامل اضطراب الشخصية التجنبية الرهاب الاجتماعي

النطاق الزمني مزمن ودائم في كل نواحي الحياة قد يكون محددًا بمواقف معينة

التأثير على العلاقات يتجنب العلاقات تمامًا قد يشارك أحيانًا لكن بقلق شديد

أصل الأعراض جزء من التكوين الشخصي أقرب إلى اضطراب القلق


كيف يمكن التعامل والعلاج؟
اضطراب الشخصية التجنبية يمكن التعامل معه بشكل فعّال، خاصة إذا توفرت بيئة داعمة، وعلاج نفسي مناسب:

1. العلاج النفسي (العلاج المعرفي السلوكي):
يُعد العلاج الأنجح حتى الآن.

يركز على تعديل الأفكار السلبية عن الذات، وتدريب الشخص على التفاعل الاجتماعي تدريجيًا.

2. العلاج الجماعي:
يمنح الشخص فرصة للتفاعل في بيئة علاجية آمنة، مما يساعده على كسر دائرة الخوف.

3. الأدوية (عند الحاجة):
في حال وجود أعراض قلق أو اكتئاب مرافق، يمكن استخدام مضادات الاكتئاب بإشراف طبي.

4. الدعم الأسري والبيئة الحنونة:
تقبّل الأسرة للشخص، وتجنّب النقد الجارح، له أثر إيجابي كبير في إعادة بناء الثقة.

هل يمكن أن يتغيّر الشخص التجنبي؟
نعم، وبقوة. لكنه يحتاج إلى وقت، وصبر، ومساعدة مناسبة.
في كثير من الحالات، الأشخاص الذين كانوا تجنبيين في شبابهم تمكنوا عبر العلاج والتجارب التدريجية من بناء حياة اجتماعية ناجحة وعلاقات مستقرة. المهم أن يُفهم الشخص لا أن يُضغط عليه.

اضطراب الشخصية التجنبية لا يعني الضعف أو الفشل، بل هو تعبير عن ألم داخلي عميق وتجارب سابقة لم تُعالَج. بدلاً من الحكم على الأشخاص الذين "ينسحبون بصمت"، لنتعلم أن نراهم بعيون أكثر تعاطفًا، وأن نساعدهم على إيجاد طريقهم نحو العالم بثقة أكبر.