وجهات نظر

التكنولوجيا والازدهار

التكنولوجيا والازدهار

يعجبني في رؤية التحديث الاقتصادي تركيزها على تحقيق تنمية اقتصادية شاملة ومستدامة، ورفع مستوى معيشة المواطنين وليس التركيز فقط على التحديث الاقتصادي التقني، وهو موضوع نبه اليه بعض كبار الاقتصاديين في العالم، أذكر منهم دارون أشيموجلو وسيمون جونسون (كلاهما حازا على جائزة نوبل في الاقتصاد العام الماضي) مؤلفي كتاب «القوة والتقدم: صراعُنا الذي دام ألف عام حول التكنولوجيا والازدهار»، حيث أوردا العديد من الأمثلة التاريخية والمعاصرة لتوضيح رأيهما بأن التقدم التكنولوجي غالبًا ما يكون مفيدا للنخب فقط، بل إنه قد يعمق الهوة بين الفقراء والأغنياء، ما لم يتم اتخاذ إجراءات متعمّدة لضمان تحسين مستوى المعيشة من خلال التوزيع العادل لمكاسب التقدم. فيما يلي بعض الأمثلة من التي أوردها الكتاب:

أدت الابتكارات التكنولوجية في الثورة الزراعية مثل المحراث وأنظمة الري إلى ثورة زراعية نجم عنها زيادة الإنتاجية في المزارع ولكنها غالبًا ما عززت ثروة ملاكي الأراضي وتركت للفلاحين العاملين في هذه المزارع مكاسب ضئيلة فلم يؤدِ تحسين مستويات معيشة الأغلبية.

كما شهد التصنيع المبكر ابتكارات مثل المحرك البخاري والنول الآلي، مما أدى إلى زيادة الإنتاجية بشكل كبير في التصنيع ومع ذلك، تحمل العمال في المصانع ظروفًا قاسية وأجورًا منخفضة، بينما حصد أصحاب رؤوس الأموال معظم الفوائد الاقتصادية.

أيضا، طور استخدام الكهرباء الصناعات والحياة الحضرية، لكن فوائدها الأولية في بادئ الأمر كانت مركزة في المراكز الحضرية الغنية فقط حيث أنها أكثر ربحية، ولم تدخل المناطق الريفية إلا لاحقا حين عملت السياسات والاستثمارات المتعمّدة على حض الشركات على توسيع نطاق الكهرباء إلى المناطق الريفية.

حديثا، خلقت منصات مثل وسائل التواصل الاجتماعي والتجارة الإلكترونية ثروات هائلة لشركات التكنولوجيا العملاقة، مثل أمازون وفيسبوك وإكس وغيرها، في حين يواجه العمال في اقتصادات العمل المؤقت انعدام الأمن الوظيفي والأجور المنخفضة.

كما أن تطور الذكاء الاصطناعي وانتشاره كممكّن لاستبدال العمالة البشرية في الكثير من الوظائف، قد يفيد أصحاب الشركات بشكل غير متناسب مع العمال في هذه الشركات الذين سيواجهون قسوة البطالة. ولا بد من التنويه بأن التطور في مجال صناعة الروبوتات أدى بكل وضوح إلى تبسيط التصنيع والخدمات اللوجستية، وأدى أيضًا إلى تشريد كبير للوظائف في تلك القطاعات.

لذا، من المفضل في الدول النامية وخاصة تلك التي تعاني من معدلات بطالة مرتفعة أن يكون الخيار التقني مساعدا للعمالة لزيادة انتاجيتها لا أن يكون بديلا لها. وفي حال كان الاستبدال لا بد منه يجب إعادة التدريب مباشرة، رغم ارتفاع كلف التدريب.

أيضا، سيكون هناك توسع في الهوة بين الدول الفقيرة والغنية إن لم يتنبه صانعو القرار الى هذا الجانب. ففي حين أنقذت التقنيات الطبية مثل اللقاحات وأدوات التشخيص ملايين البشر، فإن الوصول إلى هذه الابتكارات غالبًا ما يكون محدودًا بسبب التفاوتات الاقتصادية وعوامل جيوسياسية، حيث حصلت الدول الأكثر ثراءً في وقت أبكر من الدول الأكثر فقرا على اللقاحات خلال جائحة كوفيد-19، مما يبين مدى التفاوت في الوصول الى اللقاحات بين الدول الغنية والفقيرة.

استخدمت النخب التكنولوجيا على مر التاريخ لترسيخ قوتها وثروتها، بدلاً من تقاسم فوائدها بشكل عادل حين لم تحدد الخيارات المجتمعية والسياسية ما إذا كانت التطورات تفيد الكثرة أم القِلة. لذا يجب إيجاد اختيارات مجتمعية توسع نطاق الوصول إلى الفوائد التكنولوجية شريطة أن تكون مصحوبة بسياسات إعادة تدريب العمالة وخلق فرص عمل جديدة لأن خطر الأتمتة أن تتعمق الهوة بين الفقراء والأغنياء أفرادا ودولا وبالتالي تعميق اللامساواة.